(Read this story in English translation.)
حدث ذلك في ظهيرة أحد أيام آذار الدافئة من عام 1950 في إحدى القرى المجانبة لشط العرب في البصرة.وَلَدَت جميلة طفلها الأول والوحيد على سجادة قذرة ملطخة بالدم والبول والسوائل المخاطية ذات الرائحة الكريهة. كان الكيس الأمنيوسي الذي يُغلّفه قد انفجر فجأة، فتدفّق ماء الرحم دفعة واحدة من خلال المهبل على شكل بصقة هائلة ارتطمت بوجه القابلة، التي طلبت أجراً إضافياً مقابل تحمّلها كل تلك القذارات. في حين ما زال الطفل محشوراً في ظلمة الرحم، ومهدداً بالموت. القابلة المحنكة تعرف شغلها في مثل هذه الحالات، انتشلته في الوقت المناسب، انتزعته بالقوة كما ينتزع أحدهم كتلة مطاطية من إطار سيارة. تناولت بعدها سكيناً لا تقل تلوثاً عن سكين تقطيع السمك التي استعملتها أم غرينوي* لتقطع بها الحبل السري الذي كان يربطه بالمشيمة. ثم رفعته من أخمصي قدميه كما تُرفع الذبيحة، وشرعت تربّت على قفاه، إلى أن تلاشت زرقته، وأطلق صرخته الأولى، التي تشبه نعيب غراب صغير يتدرب على إشاعة سوء الطالع وأخبار الخراب.
كان قد مضى على اختفاء منصور، زوج جميلة ستة أشهر. وكانت مظاهر الحزن ما تزال تخيم على بيته الطيني الذي يقع في قرية صغيرة وارفة الظلال، اشبه بغابة من النخيل، تشقها الأنهر الصغيرة المتفرعة من شط البصرة، وتُكثر فيها أشجار النبق وزراعة الفاكهة والخضار بأنواعها المختلفة. وكان صوت هديل الفواخت وهي تنعى فراخها على سعف النخيل في الخارج أشبه بنواح جميلة التي صارت تأنّ الآن وتهذي وتكيل الشتائم واللعنات للمولود الجديد :
" أبعدوه ! " كانت تصرخ كما لو أن شيطاناً تلبسها : " أبعدوه عني.. لا أريده ! "
في تلك الأثناء، كان حامد عم الطفل وشقيق منصور، في قارب الصيد خاصته، يرمي شباكه في مياه شط العرب الراكدة، حين وجد من ينقل اليه خبر ولادة ابن شقيقه. فهُرع هذا على الفور وراح يعدو بين الأحراش مختصراً الطريق إلى البيت. وإلى أن وصل، كانت جميلة ما تزال تأن من أوجاع ما بعد الولادة وتشتم طفلها الرضيع، وتطلب رميه في النهر. كانت تدعوه غراباً وتعتبره السبب وراء اختفاء زوجها. دخل حامد عليها في الحجرة الطينية المسقوفة بجذوع النخيل وحصائر القصب، ارتطمت رائحة النفاس والسوائل الأخرى بخياشمه، كاد أن يغلق أنفه وثمة عطسة توشك أن تنطلق، لكنها تراجعت في اللحظة الأخيرة وبعثت في نفسه شعوراً بالضيق والحنق. وجد هناك أمه، وهي امرأة ممتلئة، ستينية العمر، كانت تحمل حفيدها الذي لُفّ بأقمطته، وتحاول إسكاته بهزه يميناً وشمالاً، إذ ما زال ينعب بالطريقة الغرابية نفسها، حتى بسط عمه يديه كأنه يتضرّع، فناولته إياه وتلقفه هوبرفق مبالغ فيه، كما لو أنه يخشى عليه أن يتهشّم، ولاحظ حينذاك أن له وحمة جلدية سوداء على خده.
" سنأخذه معنا "
قال لأمه العجوز التي هزت رأسها موافقة. التفت بعدها إلى جميلة التي خفّ أنينها. كانت ممددة على فراشها بجوار الجدار، وقد أشاحت بوجهها ما أن اقترب شقيق زوجها منها، لكي لا ترى الغراب الذي يحمله.
" خذوه من هنا فحسب " قالت بنبرة يائسة، باكية، ومتوعِدة : " وإلا قتلته ! "
أوشك حامد أن يقول لها أنه طفل بريء، ولا ذنب له بما حصل، وما مجيئه إلى الحياه في مثل هذا الوقت سوى صدفة. لكنه عدل عن ذلك أخيراً، إذ بدا واضحا ما تحمله الأم من كراهية وتشاؤم ونحس إزاء ابنها، الذي هدأ على الفور، كأنه وجد الحنان في حضن عمه بعد أن افتقده لدى أمه المنكوبة باختفاء زوجها، وكانت قد هددت بقتله، وربما يحدث ذلك فعلاً، إن لم يكن عمداً فبداعي الإهمال.
حمل حامداً ابن اخيه معه إلى البيت. تتبعه أمه التي كانت تجهش باكية، بينما هي تندب حظ حفيدها السيء وتقول :
" سنحتفظ به إلى أن تعود إلى رشدها "
طلبت من ابنها أن يجلب له مرضعة، وإلا سيموت من الجوع. فجاء بامرأة لم يمضِ الكثير من الوقت منذ أن ترمّلت، وما زالت ترضع طفلها الأخير الذي لم يتجاوز عمره ثمانية أشهر، بدأت برضاعته في اليوم نفسه، مقابل أجرة يدفعها حامد مما يحصل عليه من صيد السمك كل أسبوع. اسماه " شفيق " بشكل مؤقت، إلى أن تقرر أمه ضمه إليها وتسميته بنفسها. لكنه أصبح يحمل هذا الاسم طوال حياته، إذ لم ترغب الأم باستعادته حتى ماتت غرقاً بعد ستة أشهر من ولادته.
وهكذا، ترعرع شفيق وعاش حياة القرية طيلة ثمانية أعوام في كنف جدته وعمّه، الذي انتقل للعيش في المدينة بعد ثورة 14 تموز 1958، حيث عمل هناك في مصلحة الموانئ، وحصل على بيت صغير، ليس بعيداً عن نادي الميناء الرياضي، سكن فيه مع عائلته الصغيرة، أمه وابن أخيه. وفي الوقت الذي كان شفيق ينمو بشكل طبيعي، ولا يعاني من المشاكل الصحية، بل على العكس طالما بدا نشيطاً وحيوياً، ويتمتع بحس رياضي عال مكّنه في النهاية من أن يكون بطلاً وطنياً في المستقبل، كانت الوحمة السوداء في خده الأيمن تنمو هي الأخرى، ويكون لها في كل حين شكل كأنه يُنتقى من سلة للفاكهة والخضار. فمرة تبدو مثل جزرة، ومرة أخرى مثل خيارة، وفي مرة ثالثة عرنوص ذرى، حتى استقرت في عمر الثانية عشرة على شكل موزة تُركت في الثلاجة فترة طويلة حتى اسودّت. وفضلاً عن ذلك، كان ثمة وبر حيواني غريب ينمو على تلك الوحمة، التي لم يزل شفيق يشعر حيالها بالانزعاج والإحباط، حتى كاد أن يسلخها يوماً من شدة الهرش. لكنه، ما أن توقفت الوحمة عن النمو والاتساع عند هذا الحد، حتى بدأ بالتصالح مع شكله بوجودها على وجهه مثل رقعة جلدية ألصقها أحدهم عنوة بدل الغمازة في ذقنه.
لقد أمضى منصور، والد شفيق، السنوات الأخيرة من عمره، مؤمناً بنظرية التطور التي احتفى بها ماركس حين جاء أنجلز إليه حاملاً الصحيفة التي نشرتها، وصارت فيما بعد الأساس الذي انطلق منه لأثبات نظريته الاجتماعية والأخرى الاقتصادية. كان أحد أولئك المتعلمين اليساريين الذين وجهتهم اللجنة المركزية للحزب الشيوعي إلى استغلال وجودهم كمعلمين في المدارس النائية، لتثقيف أهالي القرى والفلاحين وكسبهم تحت شعار " يا عمال وفلاحي البلاد العربية اتحدوا " الذي خطه فهد** بيده، وتلقينهم أهداف البروليتاريا العالمية : " ثماني ساعات عمل، ثماني ساعات راحة، ثماني ساعات ثقافة " في خصّ يشرف على النهر. كان جريئاً إلى حد التهور وهو يصرح علناً أن أصل الإنسان قرد، ويحدث ذلك أمام مناوئيه المتدينين في القرية، الذين يقولون بنظرية الانمساخ القرآنية، ويمنّون أنفسهم بيوم يتحول فيه منصور إلى قرد، الأمر الذي كان يؤكد الشيخ حبيب الله إمام الجامع في القرية على حدوثه عاجلاً أم آجلاً، كلما اعتلي المنبر عقب صلاة الجمعة، مردداً بغضب ونبرة تهديد ووعيد :
" ذلك الدارويني الكافر، سيُمسخ إلى قرد يوماً، ليرى ذلك بنفسه ! "
إلا أن وعظ وترهيب الشيخ حبيب الله لم يحرك في منصور شيئاً، كما لم تغيّر تهديدات بعض المتشددين له بالقتل من قناعته بهذا الشأن. فمنذ أن قرأ كتاب داروين أصل الأنواع وهو يشيع في كل مكان يكون فيه النظرية القائلة بأن أصل الإنسان قرد. كان يثير حنق حتى زوجته التي هددت بهجره إن لم يكف عن التعاطي بهذه الفكرة. لكنها سرعان ما تعود إلى أحضانه، غير مبالية بما آلت إليه سمعته بسبب اعتناقه تلك النظرية وسخرية الناس منه وتكفيرهم له، فقد كانت تحبه، وعاشت معه قصة حب ما زالت النساء في القرية يتحدثن بها.
كانت تمازحه في الفراش قائلة :
" كنت سأحبك حتى لو كنت قرداً ! "
فيجيبها هو بقوله :
" أنتِ أجمل قردة في العالم ! "
كانت حاملاً في الشهر الثالث حين توحّمت. اشتهت موزاً، في وقت لم تكن هذه الثمرة، التي كانت تُزرع في البصرة حينذاك، متوفرة بعد. وعلى الرغم من ذلك، قرر منصور المجازفة بالتسلل إلى أحد بساتين الإقطاعيين، أملاً بالعثور على موزة واحدة على الأقل، في إحدى نخلات الموز القليلة هناك. لكن، كان عليه أن يجتاز عدداً من بساتين النبق أولاً، ليصل إلى مبتغاه.
لم تطمئن جميلة، وشعرت بالندم لأنها أخبرته بتشهيها الموز، خصوصاً أنها تعرف إلى أي حدٍ هو عنيد زوجها، ولن يتراجع عن قراراته، حتى وإن جاءت تلبية لرغبات لا يؤمن بمدى تأثيرها في حال أنها لن تُحقق، كخشية امرأة من أن يخرج طفلها إلى الحياة بوحمة معيبة على شكل الشيء الذي اشتهت أكله. ثمة إحساس بالقلق والخوف والحزن بدأ يراودها منذ اللحظة الأولى التي غادر فيها زوجها البيت، بحثاً عن موزة. وكما لو أنها تعلم أنه لن يعود أبداً، بكت جميلة بينما هما يتضاجعان للمرة الأخيرة. وكانت تنظر إلى وجهه مركزة كل نظرها إلى عينيه، حتى وهي تفرغ شهوتها وتهتز في لحظات الذروة. وفعلاً، لم يعد منصور في تلك الليلة، ولا في اليوم الذي تلاها، ولا في الأيام اللاحقة. اختفى في أحد بساتين النبق المنتشرة على الضفة اليمنى لشط العرب، حيث تمر من هناك بواخر الشحن المحملة بالبضائع، وهي في طريقها إلى ميناء المعقل. لم يعد إلى البيت، كما أن أحداً لم يره وهو يغادر البستان. بعض الاهالي تكهنوا بغرقه، ورجحوا ذلك على احتمال موته بلدغة أفعى أو عقرب أو آفة من تلك الآفات التي يقال أنها تخرج من تحت الأرض وتختطف الرجال، إلا أن أحداً منهم لم يكلف نفسه عناء البحث عنه، ما دام أنه نسب أصولهم إلى الحيوانات وقال أنهم قرود، باستثناء ذويه وبعض أقاربه الذين شرعوا بالبحث في الأنهار والبساتين الكثيفة والقرى المجاورة، لعلهم يعثرون على أثر له، قبل أن يصيبهم اليأس ويبلغوا الشرطة عن فقدانه. عندئذ، وحين لم تعثر الشرطة هي الأخرى على دليل يقودهم إلى مصير الرجل، لم يتبق سوى احتمال غرقه في الشط، رغم أن الجميع يشهدون بأنه سبّاح ماهر، ففي هذه النواحي ثمة ميزتان لا بد أن يحوز عليهما جميع الذكور من سكان القرى المتاخمة للشط، ألا وهما العوم والصعود النخل. ولم تكن مهارة منصور في الثانية أقل من الأولى. وتبقى هناك أسباب أخرى تساعد على غرق حتى أولئك الذين يجيدون العوم، لعل أكثرها شيوعاً هي إصابة الشخص بتشنج عضلي في إحدى قدميه، يعيقه عن الحركة، بينما هو يعوم في المياه العميقة. كما إن بإمكان أفعى، أو سلحفاة عملاقة، أو قرش جائع تسلل عبر مصب الشط في الخليج بحثاً عن البرودة، أن يقضم قدم الشخص العائم ويؤدي به إلى الغرق. لكن شيئاً لم يظهر في تلك الأثناء ليدل على أن منصور لقى حتفه بتلك الطريقة. أما عن احتمال اختطافه من قبل جنية تسكن الشط، أو حورية ماء، فمثل هذه الأساطير الصغيرة لا يتحدث بها سوى الجدات العجائز اللائي ينسجنها لتخويف الصغار في الليالي الباردة.
لم تحتمل جميلة صدمة اختفاء زوجها.
كان الاختفاء، بالنسبة لها، أشد وطأة وألماً من الموت، على الرغم مما قد يتركه البعض وراءهم من أمل بالعثور عليهم يوماً ما. كانت تتخيل الجانب المظلم دائماً، الجانب السوداوي الذي أسوأ ما فيه هو عملية تحول الأمل، من أمل في العثور على المختفي، إلى أمل العثور على جثته. وحين لا يكون هناك جثة، يبدأ البحث عن اسم، اسم فحسب في لوائح المفقودين. وحين لا يكون بالإمكان العثور على اسم، يحق للمرء، حينئذ، أن يأكل أصابعه ندماً وحسرة على عمر أمضاه في انتظار شبح، غودو غير موجود، لا شيء، ومحض هباء. لهذا، عمدت جميلة إلى التخلص من الطفل، كما لو أنها تفعل ذلك لتشفي غليلها وتعاقبه علة اختفاء والده. كرهته، حقدت عليه، اعتبرته سوء الطالع ونذير الشؤم الذي لا تأمل معه عودة زوجها.
في أحد الأيام، ألقت جميلة نفسها من علوٍّ حتى كادت أن تُكسر ساقها. وفي يوم آخر، ابتلعت عدداً كبيراً من الأقراص، ثم شربت سوائل تحرق الأمعاء وتثير الغثيان طيلة الوقت. فعلت كل ما بوسعها في سبيل إجهاضه، لكنها لم تستطع، كما لو أنه رُبط في أحشائها بحبال. شعرت باليأس وكفت عن محاولاتها بعد شهرين. قررت أن تلده، لترميه فيما بعد في النهر، أو في بئر، أو أمام الجامع. ولو اضطرت فستقذفه في أقرب مكب للنفايات طعماً للكلاب السائبة. كانت ستفعل ذلك في النهاية، لكن عمه حامد كان هناك في ذلك اليوم، فانتشله في الوقت المناسب.
في اليوم الثالث لولادته، أي بعد ستة أشهر من اختفاء والده، واثناء موسم الحصاد السنوي، بدأ المزارعون يلاحظون النقص الحاصل في محصول النبق. وبمرور الوقت، كان هناك الكثير من الأشجار التي عُبث بها وكُسرت أغصانها وهُزّت بقوة لتُنفض من أحمالها. أطنان من النبق غطت الأرض، وسُحقت، وتُركت لتجف وتفسد أو يأكلها الدود. اغتاظ المزارعون. لم يشكوا أن ثمة من تعمد فعل ذلك، ليضعهم في موقف لن يجدوا ما يدفعون به عنهم تهمة التخريب والإهمال التي سيلصقها بهم ملاك الأراضي الإقطاعيون. في البداية، ارتابوا بشأن الخلية الشيوعية التي شكلها منصور وكانت تجتمع سراً في أحد البساتين الخربة. خصوصاً وأنهم علموا بكراهيتهم للإقطاعيين، ووصل إلى أسماعهم بعض ما كانوا يرددونه من مصطلحات غريبة مثل البرجوازية، البروليتاريا، الاشتراكية، الرأسمالية، الداروينية. لكنهم عادوا لينفوا التهمة عنهم بما أن أولاد البعض منهم ينتمون إلى هذه الخلية، ولن يعمدوا بالتالي إلى إيذاء آبائهم المزارعين، لعلمهم بالعواقب التي ستثقل كاهل ذويهم جراء ذلك الفعل.
في النهاية، عزم المزارعون أمرهم على اكتشاف الفاعل والإمساك به وكف أذاه عنهم. شرعوا يجوبون البساتين نهاراً بعصيهم ومناجلهم، وفي الليل ينتخبون مجموعة منهم للحراسة، إلى أن وقعوا، في إحدى الليالي المقمرة، على العلّة التي أرّقتهم طوال الفترة الماضية، واكتشفوا أن ثمة قرد وراء كل هذا العبث.
قرد كبير، مشاكس وقوي، رأوه وهو يقفز من شجرة إلى أخرى، ويتعلق بأغصانها، ويهاجم بعضهم بنوى النبق الذي يسطو عليه كل يوم. أحال هذا المشهد البعض ممن وقف بالضد من نظرية التطور وتوقع لمنصور مصيراً سيئا،ً خصوصاً الشيخ حبيب الله، إلى نظرية المسخ القرآنية. فتسلق الشيخ درجات المنبر، وكان يوم جمعة، وأشاع بنبرة التشفي والشماتة الشديدتين خبر تحوّل منصور الشيوعي الدراويني الكافر إلى قرد. لم يدخر جهده بعدها في التحريض على قتل القرد العابث، المجنون. وكان سيفعل ذلك بعض المتشددين من مريديه، لكن قبيلة منصور وقفت حائلاً دون إتمام الأمر، واقترحوا القبض عليه وسجنه فحسب. إلا أن أياً من محاولات المزارعين من أجل الإمساك به لم تنجح. الملعون، كان ماهراً في فن الغش والاختباء والمراوغة وقذف نوى النبق، إلى الحد الذي يبدو كأنه يقذفها من بندقية، وليس من فمه. وكان نشاطه قد ازداد بمرور الوقت بشكل نغّص على المزارعين عيشهم وزاد من خسائر مُلّاك الأرض. فبعد أن جرّد أشجار السدر من ثمارها، انتقل إلى النخل وراح ينتزع طلعه. لم يبق حبة طلع في نخلة على مدى أيام. صارت الأرض مغطاة بغبار الطلع الأبيض هذه المرة. حينئذ، قرر الشيخ حبيب الله اغتياله سراً، بواسطة بندقية حصل عليها قبل ستة وثلاثين عاماً، من مجند تركي هارب من معارك العثمانيين مع الانكليز مقابل إيوائه. وكلّف أحد مريديه ممن يجيدون القنص لهذه المهمة.
لكن، حدث أمراً لم يكن في حسبان الشيخ حبيب الله في حينها، إذ فوجئ الجميع، في اليوم نفسه الذي تقرر فيه اغتيال القرد، بربانين هنديين يبحثان في الجوار عن قرد كان قد هرب من الباخرة التي يعملان فيها، أثناء توقفها أمام الضفة المحاذية للقرية. وكان بصحبتهما قردة تُدعى لوسي، قالا إنها زوجته، وقد جلباها معهما على أمل إقناعه بالعودة إلى الباخرة. اغتاظ الشيخ حبيب الله، وكان سيصرفهما ويمضي في خطة الاغتيال، إلا أن بعض المزارعين سبقوه وأخبروا الربانين عن مكان القرد، فتوغل هذان داخل البساتين بحثاً عنه، ترافقهما القردة لوسي التي حملت معها بعض الموز لزوجها، وقد صمّت آذان القرويين بكثرة زقحها، حتى بدت كأنها امرأة متلهفة للقاء قرينها بعد طول غياب. بعض النسوة هرعن إلى جميلة وهمسن في أذنها عما يجري هناك. وكما لو كانت لوسي ضرتها حقاً، استشاطت المرأة غضباً وشقت ثيابها ولطمت، ثم نهضت وراحت تجري حافية صوب البساتين وهي تصرخ وتولول. في وقت كانت لوسي قد أتمت مهمتها على أتم وجه، واستطاعت أن تجذب القرد الهارب إليها، فأمسك به الهنديان وقيّداه وحملاه إلى الباخرة على متن قارب، ليتم إيصاله فيما بعد إلى المدينة، حيث يعتزم أحد الأثرياء إنشاء حديقة للحيوانات.
من جانب آخر، انتكس القائلون بفرضية الانمساخ، وتجهمت وجوههم، بعد أن أوشكوا على تصديق أن منصور تحوّل إلى قرد فعلاً. منصور الذي لم يظهر له أثر في أي مكان. فربما غرق حقاً، أو تم تصفيته من قبل بعض الاقطاعيين أو المتشددين الذين سبق وأن هددوه، أو أنه افتُرس من قبل حيوان متوحش، وهي إحدى الفرضيات التي فنّدها عدم وجود عظام أو بقايا من جثّته.
مضت الأيام، وكاد الأهالي أن يتناسوا أمره لولا أن أحد المزارعين أعاد اللغط بشأنه في الموسم التالي، عندما ادعى تعرضه إلى هجوم بنوى النبق في أحد البساتين.
كان شفيق، في تلك الأثناء، قد بلغ اسبوعه الثاني، وأصبح يتيم الأبوين، فقد غرقت أمه في مياه الشط، عندما حاولت اللحاق بالقارب الذي حمل القرد وزوجته لوسي إلى الباخرة. وبهذا، تحتم على حامد الاعتناء بابن اخيه بشكل دائم، بعد أن تنازلت عائلة منصور عن حضانته، الأمر الذي لم يكن بمقدوره التخلي عنه. ومنذ ذلك الحين وشفيق يحظى برعاية عمّه الأعزب وجدته لأبيه. لم يكن من الصعب عليهما توفير معيشة لا بأس بها لطفل صغير ويتيم. كانا يحيطانه بكل وسائل الدعم، ويغمرانه بالحب، ويعطفان عليه طيلة الوقت، ويحاولان إبعاده عن صورة الماضي المؤلم، الذي لا يريد أن ينساه الآخرون، إذ لم يكد شفيق يبلغ الرابعة من عمره، حتى صار الأطفال في الشارع ينعتونه ابن القرد. لم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل تطور إلى درجة صارت تشكل خطراً عليه، عندما كوّن مجموعة من الأولاد المتنمرين، بعد سنوات، حلقة دأبت على إيذائه منذ أن دخل إلى المدرسة. صار يقاسي تبعات إيمان والده بالداروينية. فعلى الرغم من دحض قصة تحول هذا الأب إلى قرد، عندما اتضح أن القرد الذي خرّب بساتين النبق، ليس هو نفسه منصور المختفي، إلا أن هناك من لا زال ينادي شفيق بالقرد أحياناً وابن القرد في أحيان أخرى. مما دفع العم حامد إلى الهجرة صوب المدينة، ليجنّبه مرارة العيش في قرية ما زال أغلب سكانها يصدقون أن أباه مُسخ إلى قرد.
لقد وجد شفيق الصغير في حياة المدينة فضاء ومنطلقاً لتحقيق أحلامه الرياضية، التي تكوّنت في وقت مبكر، مستغلاً سكنه في منطقة تضم أحد أعرق الأندية الرياضية في العراق. بدأ بكرة القدم حين كان في العاشرة، ثم انتقل بعدها إلى رياضة الجري، ومنها إلى كرة السلّة قبل أن ينتهي به المطاف إلى مصارع في الفريق الوطني لأكثر من عشرة أعوام، نال خلالها الكثير من الأوسمة والألقاب، وأكمل تعليمه حتى تخرج في كلية التربية الرياضية، التحق بعد ذلك بألعاب الجيش أثناء خدمته العسكرية. ثم استُدعي مرة أخرى لأداء خدمة الاحتياط في الجيش مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية. وإلى أن انتهت الحرب في عام 1988 كان عمر شفيق ثمانية وثلاثين عاماً، متزوجاً ولديه ثلاثة أبناء، ويعيش في البيت نفسه، الذي تركه العم حامد له وعاد إلى القرية بعد تقاعده ووفاة أمه، ليعيش فيها أيامه الأخيرة.
بعد الحرب، عاد شفيق إلى الرياضة، وعمل مدرباً لأحد فرق المصارعة في المدينة لفترة قصيرة، قبل أن تسنح له فرصة للعمل في محطة الإذاعة المحلية كمعلق رياضي ثم مقدماً لبرنامج اللياقة البدنية الذي يُبث صباحاً. وهو آخر عمل زاوله قبل ضياعه في سجون السلطة.
كان حتى ذلك الحين، يملك جسماً رشيقاً وعقلاً متوقداً. كان نشيطاً، ممتلئاً بالحياة ومقبلاً عليها. يعشق الدعابة، ويستيقظ مع أول صيحة يطلقها ديكه الأحمر، الذي جلبه خصيصاً ليوقظه في تلك الساعات المبكرة، ليبدأ بعدها ممارسة رياضته الصباحية، العدو، رفع الأثقال، وبعض الحركات الأكروباتية. يحلق ذقنه، يستحم، ويتناول فطوره، بيضة نيئة، قطعة خبز أسمر، وكوباً من حليب الجاموس الطازج الذي يشتريه من بائعات الأجبان في السوق. يرتدي ثيابه الرياضية ويذهب راجلاً إلى مبنى الإذاعة، ليسجل حلقة جديدة من برنامجه الأسبوعي الذي يعنى بالرشاقة وبناء أجسام سليمة، فضلاً عن تقديم النصائح بشأن الغذاء الصحي للمستمعين، وشرح الطرائق المناسبة للتخلص من الوزن الزائد. كان يخصص نصف الوقت من كل حلقة لذكر الفوائد الصحية للأغذية، ثمرة معينة أو نوعاً من الخضار أو المكسرات، ولا يكتفي بذلك، إنما يحمل معه كيساً مليئاً بذلك النوع من الغذاء، ويقوم بتوزيعه على زملاءه في الإذاعة، ويروي أمام الميكرفون، بعض النوادر الغذائية التي لا تخلو من الطرافة، والتهكم أحياناً. فبعد أن يشرح لمستمعيه فوائد الجزر مثلاً يربط حديثه بالأرانب، ويروي حكايات مسلية عن علاقة الجوز بالسناجب، والدببة بالعسل.
في أحد الأيام، توحمت زوجته واشتهت موزاً. كانت حاملاً بطفلها الرابع.
هرش شفيق الوحمة في خده كردة فعلا لا إرادية فور سماعه تلك الزوجة، وهي تشكو من الغثيان وتطلب موزاً. لقد مضت فترة طويلة من دون أن تمتد يده إليها، حتى أنه ينسى في بعض الأحيان أن ثمة وحمة بهيئة موزة في وجهه. لكنه ما أن سمع زوجته وهي تلح بأن يجلب لها موزاً، حتى راح يهرش خده، فبدا في حينها كما لو أنه مصاب بالجرب. مضى من عمره ثمانية وثلاثين عاماً، لم يأكل خلالها ولا حتى قشراً من هذه الفاكهة التي يندر وجودها في الأسواق، منذ بداية الثمانينيات، ولأسباب غامضة لا تعلمها سوى الحكومة. فكر بتجاهل طلب الزوجة المتوحمة، التي ازدادت لجاجتها على نحو ظن معه أنها ستموت إن لم تأكل موزاً. تذكر أن وحمة ظهرت في خده لأن أمه لم تأكل موزاً، فعدل عن فكرته وقرر الخروج ليبحث عن موز. وبينما هو في طريقه إلى السوق، فكر بجدوى أن يخصص الحلقة القادمة من برنامجه للموز، ويبين فوائده وأهميته. وقرر أن يشتري كيلو غرام إضافي، ليوزعه على زملاءه في الإذاعة، كما اعتاد أن يفعل في كل مرة. لكنه لم يجد في السوق ولا حتى رائحة موز. بحث في كل مكان، وراح يتنقل بين الأسواق، ويسأل الباعة، لكن دون جدوى. شعر بالغضب :
" لا يعقل أن تخلو البصرة من الموز يا إلهي ! "
فكر بطفله القادم، وكيف سيخرج إلى الحياة بوحمة على شكل موزة ملتصقة في خده، أو جبينه، وربما رقبته. تخيله محاطاً بمجموعة من الأولاد الوقحين، يسألونه السؤال نفسه الذي كان يُطرح عليه وهو صغير، عما إذا كانت تلك الوحمة موزة حقاً، أم عضواً تناسلياً اشتهته أمه حينما كان جنيناً في بطنها. لم يحتمل المشهد، فعاد إلى البيت حاملاً معه كيساً مليئاً بالبرتقال، لكن زوجته رفضت أن تأكل إلا موزاً، وطفقت تبكي بدلال زائف :
" أريد موزاً ! "
كانت تعبث بسحاب قميصه الرياضي، وتزم شفتيها، وتحرك كتفيها نحو الأعلى والأسفل، على نحو ما يفعل الأطفال :
" اشتهي موزاً، الآن ! "
بينما كان هو يفكر بالحلقة الجديدة من برنامجه.
في اليوم التالي، ذهب شفيق إلى الإذاعة، ولاحظ في طريقه إلى هناك قافلة طويلة من الشاحنات العسكرية، تحمل دبابات يبدو أنها وصلت مؤخراً من الاتحاد السوفيتي. امتقع وجهه بينما هو يحصي تلك الدبابات، ويتساءل عن سعر الواحدة منها. كانت تمر من أمامه في طريقها إلى الحدود مع الكويت، لتُدمر بعد عامين وتحولها الطائرات الامريكية إلى خردة. ابتأس كثيراً. غادرت البشاشة وجهه، لتحل مكانها ملامح الاستياء، مما لفت انتباه زملائه، الذين لاحظوا أنه جاء هذه المرة بيدين فارغتين، فلا جوز ولا جزر ولا عسل ولا حتى موز. استغربوا حين سألهم عن سعر الدبابة التي تستوردها الحكومة من الاتحاد السوفيتي. قال أحدهم :
" أظن أن سعرها أربعة ملايين دولار ! "
أجفل شفيق فوراً وأرعبه الرقم. راح يعد بأصابعه وكاد أن يتفوه بحماقة، لولا أن أحد الزملاء غمزه في تلك اللحظة، في إشارة إلى وجود من يتجسس لصالح الحكومة بين العاملين. دخل بعدها إلى الاستوديو وجلس في مكانه أمام الميكرفون. أومأ له المخرج بإشارة البداية، فشرع يحيي مستمعيه بخمول على غير عادته، مبتدئاً حديثه عن فوائد الموز :
" يجب على كل مواطن أن يأكل موزة واحدة في اليوم على الأقل ! "
ثم شرع، كعادته برواية بعض الدعابات التي لها علاقة بموضوع الحلقة :
" هل تعلمون يا أعزائي أن الموز كان يُزرع في البصرة ؟ القردة تحب الموز، وتأكله أكثر منا ؟ وبمناسبة الحديث عن القرود، يقول ديكارت أنها كانت تتكلم، لكنها صمتت لكي لا تضطر إلى العمل هأ هأ ! تصوروا معي قرداً يتكلم إلى مزارع في إحدى جزر الأكوادور قائلا له بتودد : من فضلك أيها المزارع الطيب، هلا أعطيتني موزة. زوجتي تتوحم بموزة، إذا لم تأكلها ستنمو وحمة في مؤخرة طفلي، وأنت تعرف كم سيكون ذلك معيباً، أليس كذلك أيها المزارع الطيب ؟ اقطف واحدة وارميها لي، نعم، هاتها، هكذا، الآن ! وفضلاً عن ذلك هناك اسطورة صغيرة سمعتها من جدتي في صغري، عندما سألتها عن السبب وراء اعوجاج الموز، فقالت أن الموز يأتي مستقيماً، مثله مثل الجزر والخيار، إلا أن ثمة قرود تقوم بثنيه في الميناء، فيصل إلينا بهذه الصورة، معوجاً ! "
ازداد تهكمه في الدقيقة الأخيرة من عمر البرنامج الذي ختمه بكلام كان بمثابة الحبل الذي لفّه حول رقبته بيديه :
" أكثر من مائة مليار موزة تؤكل في العالم سنوياً، نصيب القرود منها الثلث ! وحكومتنا تشتري الدبابة الواحدة من الاتحاد السوفيتي بأربعة ملايين دولار ! في الوقت الذي تخلو أسواقنا من الموز ! "
لم يعد شفيق إلى بيته في ذلك اليوم، فقد اعتُقلته قوة من الأمن بعد أقل من ساعة كانت قد مضت على انتهاء البرنامج. قيّدوه، عصبوا عينيه، واقتادوه في سيارة مظللة الى مديرية الاستخبارات. جردوه من ثيابه، ووضعوه في زنزانة انفرادية، ومنعوا زوجته من زيارته، ومنعوا عنه الطعام حتى كاد أن يهلك من الجوع، ثم بدأوا بإطعامه تدريجياً.
كان طعامه في الأسبوع الأول عبارة عن موزة وقدح ماء، وفي الأسبوع الثاني موزتان ونصف قدح ماء، وفي الأسبوع الثالث ثلاث موزات وربع قدح ماء، وبدءاً من الأسبوع الرابع صار غذاءه في الحبس مقتصراً على الموز فقط، مع قدح ماء واحد في كل يوم. كان هناك الكثير من الموز الذي تمنى أن يرسل لزوجته إصبع منه، لكي يتفادى بذلك إمكانية أن يولد طفله بوحمة على هيأة موزة في خده. وكانت بوادر المرض قد بدأت بالظهور منذ الأسبوع الأول، عندما راح يعاني من الأرق والإسهال الشديد، ثم الصداع النصفي وتلف الأعصاب. تسوست أسنانه، وازداد وزنه على نحو خطير، قبل أن يصاب بالسكري ويشرف على الموت.
وبينما هو يحتضر في زنزانته المنفردة، ويُتوقع أن يلفظ أنفاسه الأخيرة في أقرب وقت، بدأت الوحمة بالتوسع، لكن ببطء. غطت في البداية نصف وجهه الأيمن، حيث تقع، ثم انتقلت إلى النصف الآخر، قبل أن تغطي وجهه بالكامل وتزحف إلى رأسه. كانت بشرته تتغير كلما اتسعت الوحمة التي اكتسحته تماماً. أصبحت أكثر خشونة، بوبرٍ طويل داكن اللون انتشر في أنحاء جسده، باستثناء مؤخرته ووجهه الذي مال لونه إلى الوردي. تغيرت ملامحه على نحو لافت. تقوقع جسمه بطريقة مخيفة. طالت يداه وقصُرت قدماه. الإصبعان الكبيران في كلتي قدميه صارا يشبهان كثيراً إبهامي اليدين، مما مكنه من مسك الأشياء بقدميه. تفلطحت أظفاره. نسي الكلام وراح يصدر أصواتاً أشبه بالقهقهة. برز خطمه إلى الأمام، وأصبح لديه شفتان رفيعتان، وفك عريض، وقواطع طويلة، أنف صغير، عينان عميقتان، وأذنان كبيرتان مدورتان، في حين كان هناك نتوء صغير ما زال ينمو أعلى مؤخرته تحوّل في النهاية إلى ذيل.
كان الجلادون يراقبون مراحل التطور هذه بذهول. أرعبهم تحوّل الرجل التدريجي إلى وحمة هائلة بهيئة شمبانزي تلطّخ وجه الإنسانية.